الجواب عند ملايين المسلمين أن المسجد الأقصى الذي جاء ذكره في القرآن في صورة الإسراء، يقع في فلسطين.
وغير المعروف لدى كثيرين أن مدينة القدس لم يكن اسمها كذلك في زمن الرسول ولا في زمن الصحابة؛ فقد كانت في القديم تُعرف بمدينة إيلياء، حيث إن اسم إيلياء نسبة إلى إيلياء بن ارم بن سام بن نوح، ثم سميت إيليا نسبة إلى الإله الروماني الرئيسي.
وتغير اسم مدينة إيلياء في عصر الإمبراطور «قسطنطين» المتوفى عام 337 ميلادياً، وهو أول من تنصر من أباطرة الرومان، واعتمد المسيحية ديناً رسمياً وشعبياً في أنحاء الإمبراطورية، وقد ألغى اسم إيليا، وأعاد للمدينة اسمها الكنعاني.
والواقع أن أول اسم ثابت لمدينة القدس، هو «أوروسالم» أو «أوروشالم» (مدينة السلام).
إن سبب اعتقاد كثير من الناس أن المسجد الأقصى يقع في فلسطين يعود إلى أن كثيراً من كُتَب التاريخ وكُتَب التفاسير وخاصة المتأخرة منها تقول بأن الأقصى يقع في القدس، ومن هنا صار الخلط بين القدس والقبلة والمسجد الأقصى.
القدس ليست الأقصى، حيث لم تكن بهذا الاسم عند بعثة محمد، ولا في عهد الخلفاء. كما أن القدس مدينة، والمسجد الأقصى مسجد.
علماً أن القبلة الأولى لا علاقة لها بالمسجد الأقصى، كما لا يوجد إجماع حول القبلة الأولى، فهناك رأيان بشأن القبلة الأولى؛ كثيرون يقولون إنّ القبلة الأولى هي الكعبة، ويذكرون أنّ محمد «كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة...». (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234).
وها هو القرطبي يلخّص لنا هذا الخلاف، فيقول:
«واختلفوا أيضاً حين فُرضت عليه الصلاة أوّلاً بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين: فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهراً، ثمّ صرفه الله تعالى إلى الكعبة. قاله ابن عباس».
وقال آخرون: أوّل ما افتُرضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يُصلّي إليها طول مقامه بمكة.. فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس.. ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي». (تفسير القرطبي: ج 2، 150).
مسجد الجعرانة - الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى |
وبكلمات أخرى، هنالك من يذهب إلى ترجيح هذا الرأي والقول إنّ الكعبة هي القبلة الأولى، وليس بيت المقدس.
وكذا نستنتج أيضاً من رواية ابن عبّاس الّذي يذكر أنّ بداية الأمر كانت إلى البيت العتيق، ثمّ تحوّل إلى بيت المقدس، وعاد بعدئذ إلى البيت العتيق: «استقبل رسول الله فصلّى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثمّ صرفه إلى بيته العتيق ونسخَها...». (تفسير ابن كثير: ج 1، 218).
أي أنّ البيت العتيق كان هو السّابق، وقد تركه الرّسول، ثمّ عاد إليه. بل هنالك من يصف الكعبة وبكلام صريح على أنّها هي بالذّات «أقدمُ القبلتين.». (تفسير البيضاوي: ج 1، 420؛ تفسير ابن عجيبة: ج 1، 115).
إذن، يتّضح ممّا أوردنا من آراء السّلف أنّه لا يوجد إجماع بشأن أوّلية القبلة لبيت المقدس، رغم شيوع هذه المقولة على الألسن وفي الكتابات في هذا الأوان.
المسجد الأقصى موجود في أرض الحجاز في المملكة العربية السعودية وفي منطقة تسمى (الجِعرانة) وهي تقع شمال مكة بـ 29 كيلومتر، وفي وادي العدوة القصوى التي ما زال اسمها يستعمل حتى اليوم .
الدليل على وجود المسجد الأقصى الحقيقي المقصود برواية الإسراء والمعراج نراه مثبتاً في:
1. كتاب المغازي للواقدي اذ يقول فيه :
"وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا; فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ, فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ" .
2. كتاب بحوث في الفقه المعاصر، الجزء الثاني إذ جاء فيه:
"الجعرانة هي موضع بين مكّة والطائف من الحِلِّ، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلاً على ما ذكره الباجي، وتقع شمال شرقي مكة المكرمة، وفيها علما الحدّ، ومنها أحرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمرته الثالثة على ما نصت عليه الروايات، وفيها مسجده الذي صلّى فيه وأحرم منه عند مرجعه من الطائف بعد فتح مكة، ويقع هذا المسجد وراء الوادي بالعدوة القصوى ويعرف بالمسجد الأقصى لوجود مسجد آخر بُني من قبل أحد المحسنين يعرف بالمسجد الأدنى".
3. جاء في حواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج 4 ص 50:
"اعتمر منها، أي من الجعرانة، قال الواقدي إنه صلى الله عليه وسلم أحرم منها من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى في ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة .. وقوله [ثم أصبح] أي ثم عاد بعد الاعتمار إلى الجعرانة فأصبح فيها فكأنه بات فيها ولم يخرج منها".
4. جاء في كتاب أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار للأزرقي ج 2 ص 207:
قال محمد ابن طارق: "اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة فأخبرني أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي كان بالجعرانة، أما هذا المسجد الأدنى فإنما بناه رجل من قريش".
5 .جاء في مسند أبي يعلى ج 12 ص 359:
"عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله يقول من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة".
مع ملاحظة أن المسجد الموجود في أيليا سابقاً (القدس) حالياً بُني بأمر «عمر بن الخطاب» عام 11 للهجرة، ثم تم في عهد «عبدالملك بن مروان» عام 72 هجرية بناء في باحه مسجد عمر مسجد قبة الصخرة ولم يكن هذا المسجد موجود في زمن محمد.
لقد بنى «عبدالملك بن مروان» مسجد قبّة الصخرة في سنة 691م. وذلك بسبب تذمّر النّاس من منعهم عن أداء فريضة الحجّ إلى مكّة، لأنّ ابن الزبير كان يأخذ البيعة له من الحجّاج، لذا قام عبدالملك ببناء الصخرة وتحويل النّاس للحجّ إليها بدل مكّة كما يذكر ابن خلكان.
العبرة التي نخلص إليها من هذا الاختلاف بين الروايات والرواة يرجع لأمور سياسية وظّفت لصالح أحداث أو قضايا ومواقف سياسية لا علاقة لها بالإيمان ولا بصالح الأعمال والعبادات.
إرسال تعليق