Famine Sculptures on the 'Banks of the Foyle' Derry |
كَثُر الحديث مؤخراً على مواقع الانترنت وقنوات البروباغاندا الإسلامية كقناة "الجزيرة"، وغيرها من القنوات والمواقع المستفيدة من بث الجهل والإنحطاط العقلي والفكري في عقول الشعوب، شائعات تم الترويج لها بشكل ضخم في محاولة لتلميع صورة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية التي لم تحقق أي انجاز سوى الغزو.
وهذه الشائعات تتعلّق بما يعُرف "مجاعة أيرلندا 1845–1852"، والتي راح ضحيتها حوالي المليون شخص تقريباً بسبب إصابة المحصول الزراعي من البطاطا بمرض نباتي يُسمى باللفحة المتأخرة (late blight). حيث أفسدت هذه الآفة مئات المحاصيل الزراعية في أيرلندا والتي كان يعتمد شعبها بشكل رئيسي على البطاطا ومحصولها من حيث الغذاء والتجارة.
وللأسطورة العثمانية/الإسلامية/العربية المنتشرة اليوم والمُتعلقة بالسلطان العثماني "عبد المجيد الأول"، 3 أكاذيب كبيرة سنفندها في هذا المقال.
- أولها هو أن السلطان أراد ارسال مبلغ 10,000 جنيه استرليني، لكنه تراجع عن ذلك لأن الملكة فكتوريا أرسلت فقط 2,000، وإرسال مبلغ أعلى منها يُعتبر اهانة دبلوماسية.. "كما يُشاع"..
- وثانيها هي أن بريطانيا العظمى قامت بمنع المساعدات من الدخول لأيرلندا وأغلقت الجزيرة ببحريتها،
- وثالثها أن السلطان "الإنساني الحنون" في حين كان يموت الملايين تحت حكمه جوعاً وقتلاً في حروبه واضطرابات ضخمة كانت تشهدها ولايته.. "قيل" أنه أرسل 3 سفن اخترقت الحصار وأوصلت المساعدات من الطعام لمدن أيرلندا وأهمها مدينة دروغيدا أو (Drogheda) والتي جعلت شعارها هلالاً ونجمة لتمجيد ذلك العمل!.. وأن هذه المساعدات أنقذت أيرلندا من المجاعة والموت المؤكّد "بفضل وروعة وإنسانية" السلطان العثماني..!
ولكن هل هذه هي الحقيقة ؟
طبعاً لا وألف لا. فالحقيقة وراء هذه الأسطورة مختفية وراء بروباغاندا ضخمة من جهات عربية وتركية، وحتى أيرلندية والتي تحاول تشويه صورة بريطانيا في مناورات سياسية سخيفة يمكن تفنيدها بساعات قليلة من البحث والتدقيق.
حيث تم طرح القصة لأول مرة من قبل القوميين الأيرلنديين عام 1851 وبعد ذلك تطورت قليلاً لتصبح أن "السلطان العثماني" أرسل المساعدة عندما لم تفعل الحكومة البريطانية ذلك، واستقرت على هذا الحال حتى قام بارنيل "تشارلز ستيوارت بارنيل Charles Stewart Parnell"، زعيم الحزب البرلماني الأيرلندي، بجولة لجمع التبرعات في الولايات المتحدة في عام 1880 بتطوير القصّة وطرح الأكاذيب الثلاث المذكورة آنفاً في محاولة لشيطنة بريطانيا ووضعها في موضع أسوأ من التركي/العثماني الذي عُرف عنه الاجرام والمجازر في تلك الفترة، فهي في الواقع شيطنة لبريطانيا أكثر منها تمجيد لإنسانية مصطنعة للعثمانيين.
الشائعة الأولى: وهي أن "السلطان العثماني عبد المجيد الأول" أراد ارسال 10,000 جنيه ولكنه تراجع وأرسل 1,000 فقط لكي لا يهين الملكة فكتوريا التي أرسلت 2,000...
كذبة ممتدة من أقاويل بارنيل بشأن تبرع الملكة فيكتوريا حيث ادعى أنها تبرعت بمبلغ 5 جنيهات إسترلينية فقط وهو نفس المبلغ الذي قدمته لكلابها.
ولكن في الواقع , كانت الملكة أكبر متبرع فردي بمبلغ 2,000 جنيه إسترليني بينما أعطى زوجها 500 جنيه إسترليني وقدم العديد من الأقارب ما بين 500 و 1,000 جنيه إسترليني لكل منهم والتي تعادل مبالغ بالملايين اليوم.
وكذبة الـ 5 جنيهات إسترلينية كانت ولا تزال شائعة على نطاق واسع في أيرلندا، لذا من الناحية السياسية فهي تساوي الملايين لأي قومي أيرلندي اليوم، فالحقيقة في ذلك الوقت أن الملكة تبرّعت من مالها الخاص، إضافة الى ذلك فقد أمرت بجمع تبرعات ضخمة من جميع أنحاء المملكة المتحدة وخارجها.
تم جمع مئات الآلاف من المساعدات من جميع أنحاء إنجلترا.
وأرسلت مدينة كلكتا وحدها في أحد السجلّات 14,000 جنيه إسترليني.
إضافة الى إرسال العديد من الأجانب المساعدة أيضًا، بدعوة من الملكة ونشر لأخبار المجاعة في أوروبا، ومن جملة المتبرعين كان "السلطان عبد المجيد"، فهو فعلياً تبرّع بـ 1,000 جنيه , وهذا كان أقل مبلغ عليه القيمة يمكن إرساله كحركة تضامنية ودبلوماسية قام بها وأكثر العديد من الحكّام في ذلك الوقت ولم تكن خارجة عن المألوف أو العرف الدولي.
وأمّا فكرة أن السلطان أراد ارسال مبلغ أكبر ولكنه تراجع عن ذلك فهي كذبة ليس لها أي أساس تاريخي، ففي ورقة بحث قيّمة قدمها «مايك داش» الكاتب والباحث الويلزي يقول:
"أن مقولة أن السلطان كان ينوي منح 10,000 جنيه إسترليني للأيرلنديين المنكوبين بالمجاعة، لكن السفير الإنجليزي، اللورد «كاولي (هنري ويليسلي)» ردعه، لأن جلالة الملكة التي كانت قد اشتركت بمبلغ 1,000 جنيه إسترليني فقط، كانت ستنزعج لو قدّم أجنبي مبلغًا أكبر.. هي مقولة غير صحيحة لسببين:
- أولهما أن الملكة تبرّعت بمبلغ 2,000 وكانت تحفّز الجميع للتبرّع بأي مبلغ كان لإغاثة ايرلندا،
- وثانيهما أن اللورد كاولي (هنري ويليسلي) كان سفير بريطانيا في فرنسا لمدة 15 عامًا من عام 1847 حيث أنه لم يذهب إلى تركيا مطلقًا في حياته" فلم يلتقِ بالسلطان قط، والادعاء التاريخي هذا باطل، ولا دليل على نيّة السلطان بإرسال 10,000 جنيه على الإطلاق.
هنا، رابط الورقة البحثية لمايك داش لمن يريد الاطلاع.
الشائعة الثانية: وهي أن بريطانيا قامت بمنع المساعدات من الدخول لأيرلندا وأغلقت الجزيرة ببحريتها، وهذه كذبة واضحة المعالم ولا تتطلّب الكثير لتفنيدها، حيث أن بريطانيا في أثناء المجاعة اتبعت سياسة اقتصادية محافظة على السوق والتجارة، وشجّعت السفن للدخول الى أيرلندا والتجارة في تلك الجزيرة في محاولة من الحكومة البريطانية لإدخال أكبر قدر ممكن من الطعام للجزيرة دون العبث أو تخريب حركة التجارة البريطانية.
وهذه السياسة طبعاً كانت سياسة فاشلة وسيئة ولم تُظهر أي نتائج على المدى القصير والمرجو، وهذا ما دفع الحكومة لجمع التبرّعات بشكل واسع، ودخول أو وصول سفن إغاثة من أي دولة أجنبية كان ليتم تسجيله وتأريخه لو حصل فعلاً من أي جهة كانت حتى لو لم تذكره الجهات البريطانية الرسمية، وهذا التسجيل أو التأريخ لسفن إغاثة تركية أو غير تركية غير موجود على الإطلاق، مع العلم أن المؤرخين والكتّاب في ذلك الوقت سجّلوا أحداثاً أقل من أهمية من وصول سفن إغاثة، ولكانوا قد سجّلوا أي شيء مماثل وخلّدوه بشكل لا يترك مجالاً للشك.
الشائعة الثالثة: هي أن السلطان العمثاني أرسل 3 سفن تحمل المساعدات من الطعام لمدن أيرلندا وأهمها مدينة دروغيدا، فهي بعيدة كل البعد عن أي حقيقة أو تاريخ.
وهي كسابقاتها من أكاذيب مجرد بروباغاندا وهراء.
حيث أن الموانئ الأيرلندية كانت في ذلك الوقت تسجّل أي سفينة تدخل وتخرج منها، ولا وجود لأي سفن إغاثة تركية في أي مدينة من تلك المدن الساحلية.
ولكن (دعونا نتماشى مع الكذبة)، حيث تذكر الشائعة الأساسية أن السفن دخلت من ميناء دروغيدا وعبرت النهر موزّعة للطعام للعامّة والجياع رغم الحصار البريطاني الذي فنّدناه آنفاً...
ولكن سجلات ميناء دروغيدا فُقدت مع مرور الزمن ودُمِّرَت! لذا لا تتوفر الوثائق الرسمية حول وصول أي سفن أجنبية لذلك الميناء. مع ذلك، السجلات الرسمية ليست هي المصدر الوحيد لأي مؤرّخ محترم، حيث تولى المؤرخ الويلزي مايك داش (المذكور بحثه آنفاً) عناء البحث في صحف دروغيدا خلال سنوات المجاعة.
وكان الإبلاغ عن تحركات السفن وحمولاتها معلومات استثنائية ومهمّة للتجار المحليين حيث نُشرت على أوسع نطاق نظراً لسياسة تحفيز التجارة المفتوحة التي اتبعتها بريطانيا لحل المجاعة كما ذكرنا، بحث «مايك داش» في أوراق دروغيدا وأشار إلى أن وصول أي سفينة غير بريطانية كان أمرًا استثنائيًا.
في الواقع، وخلال فترة المجاعة، تم تسجيل ثلاث سفن أجنبية فقط في ذلك الميناء. من بينها، كانت سفينة "بروسية" واثنان من مقاطعات كانت آنذاك جزء من الإمبراطورية العثمانية، وكانتا تحملان الطعام والمنتجات الزراعية.
هذا كل مافي الأمر. أما تلك السفينتين اللتين جائتا من الأراضي التركية لم تكن توزع شحناتها مجانًا. فعلى العكس تماماً!! كانت هناك انتقادات قوية من الصحف المحلية آنذاك أن الطعام قد تم استيراده كمشروع تجاري، بعبارة أخرى، كان استغلالاً تجارياً لسوق يتضور جوعاً سيدفع أضعاف الأسعار من أجل حفنة قمح أو حبّة بطاطا!!
وفي عام 2006 وإضافة لهذه المهزلة، قامت رئيسة أيرلندا «ماري ماكاليز» بتجميل الشائعة والمبالغة فيها بشكل أكبر أثناء زيارتها لتركيا، حيث روّجت للأكاذيب والتخريفات السابقة. كما أضافت عليها أن "مدينة دروغيدا اتخذت الهلال والنجمة شعاراً لها تيمناً بالموقف العثماني" الملفّق أصلاً.
ولكن ما أن أنهت رحلتها حتى نسف المؤرخون المحليون تلك الكذبة مُشيرين إلى أن الهلال والنجم كانا جزءاً من شعار دروغيدا منذ أن حصلت على ميثاقها من «ملك إنجلترا جون» في القرن الثالث عشر الميلادي، ولا علاقة لهذا الشعار لا بسفن تركية/عثمانية أسطورية ولا بالمجاعة. انظر هنا
أخيراً، المقال هذا ليس تبخسياً أو تحقيراً لذلك التبرّع، ولكنه نزع للتمجيد الأعمى والفارغ، الذي يخدم مصالح الإسلاميين اليوم الذين يسعون بشكل بائس لتلميع صورة دينهم وإعادة استفراغ قذارات الخلافة العثمانية التي يشهد التاريخ ضدها وضد صفحاتها السوداء التي تقطر دماً وإرهاباً.
وكأنه لا يوجد متبرع واحد في هذا العالم إلا المسلمين؟! وأن تبرعهم ذلك يأتي من تعاليم دينهم..؟!
هنا نسأل: إذ لم يحض دينهم على التبرع، فهل كانوا سيمتنعون عن التبرع من الأساس؟! وهل الإنسانية فقط محصورة بالإسلام؟!
أتمنى أن تضعوا هذا المقال في وجه أي أحمق يروّج لهذه الأكاذيب والخرافات، حيث لم ولن نسمح بأي تدليس ديني مهما كان مخفياً وبسيطاً بأن يدعم الخرافة والدجل الديني والارهاب الاسلامي بأي طريقة كانت أو على أي صعيد ومستوى.
مصادر إضافية:
- Charity and the Great Hunger in Ireland: The Kindness of Strangers by Christine Kinealy.
- Empire: How Britain Made the Modern World , by Niall Ferguson.
English here
إرسال تعليق