محمد وهبة - رصيف | اللغة ذاكرة لسانية للشعوب، وأرشيف حضاري حي، وكلما كان الشعب متمدناً ارتقت لغته، وصارت أكثر ثراءً وتجريداً.
العرب في أول أمرهم كانوا أهل بداوة، لا يعرفون من الحضارة الكثير، لهذا عرفت العربية أكثر من ثمانين اسماً للسيف، ولا يوجد بها كلمة واحدة تقابل لفظة "هندسة" المأخوذة من الفارسية، أو فعل بمعنى "ترجم" الذي أخذوه عن السريانية.
لهذا كثيراً ما اقترضت العربية الألفاظ من اللغات الأخرى التي نشأت في كنف حضارة ما. فكان من دأب العرب تعريب الألفاظ الدخيلة في لغتهم بعد تصحيفها وتحريفها لتناسب اللسان العربي.
القرآن أول كتاب عربي، وقد عجّ بكثير من الألفاظ الأعجمية، سواء تلك المعرّبة والتي سبق أن استخدمها العرب في لغتهم، أو غير المعرّبة والتي لم يفهمها حتى أهل العربية من المسلمين الأوائل، وتسببت في جدل هائل بين المفسرين، نظراً لعدم إتقان علماء اللغة العربية قديماً لأكثر من لغة، مما تسبب في تخبط المفسرين في تمييز أصول الألفاظ الأعجمية.
كثيراً ما نسب المفسرون أصلاً فارسياً لكلمة سريانية، أو مصدراً نبطياً لكلمة حبشية، أو محتداً عبرياً لكلمة يونانية، وهكذا وقعوا في مزالق كثيرة يتفاداها أهل الاختصاص اليوم.
واختلف الأئمة وعلماء اللغة المسلمون في وجود مكلمات معرّبة في القرآن، فمنهم مَن نفى تماماً وقوع أي لفظ غير عربي في القرآن، وعلى رأسهم الإمام الشافعي والعالم اللغوي ابن فارس، احتجاجاً بالآيتين: "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" [يوسف: 2] وآية: "ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا فصلت آياته، أعجمي وعربي" [فصلت: 44].
في المقابل، أكد فريق آخر على ورود ألفاظ غير عربية في القرآن، وعلى رأس هذا الفريق الصحابي عبد الله ابن عباس، وهو أول من ألف في هذا المجال، في الكتاب المنسوب إليه "اللغات في القرآن الكريم" والذي تضمن الألفاظ الفارسية والنبطية والحبشية وغيرها.
ثم تبعه كثيرون مثل الإمام المفسر مقاتل بن سليمان في كتاب "الأقسام واللغات" والمؤرخان هشام بن محمد الكلبي، والهيثم بن عدي، وأربعة من أكبر علماء اللغة هم: الفرّاء، والأصمعي، وأبو زيد الأنصاري، وابن دريد، وقد خصص الأخير باباً في كتابه "جمهرة اللغة" لذلك.
كما وضع ابن قتيبة باباً في كتابه "أدب الكاتب" للحديث عن الدخيل في اللغة العربية. وأهم كتاب خصص لهذا الفن هو كتاب "المعرب من كلام العرب على حروف المعجم" للعالم اللغوي الكبير أبي منصور الجواليقي، وكذلك كتاب "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" للإمام جلال الدين السيوطي.
الألفاظ العبرية في القرآن
هناك العديد من الألفاظ العبرية في القرآن، منها تلك التي يذكرها طوبيا العنيسي الحلبي، في كتاب "تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها بحروفه" (مكتبة العرب بالفجالة، مصر، طبعة ثانية، 1932).
شيطان: في الأصل العبري: "ساطان"، ومعناه: خصم وعدو. "إن الشيطان لكم عدو" [فاطر:6].
تنّور: في الأصل العبري: "تنّور"، ومعناه: بيت النار. "فإذا جاء أمرنا وفار التنور" [المؤمنون: 27].
ملاك: وينطق "مَلَك" أيضاً وفي الأصل العبري: "ملأك" ومعناه: أحد الأرواح السماوية. "قل يتوفاكم ملك الموت" [السجدة:11].
جدث: في الأصل العبري: "جديش"، ومعناه: قبر. "فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون" [يس: 51].
جهنم: في الأصل العبري: "جي بن هنم"، ومعناه: وادي ابن هنم. وهو موقع العقاب الأبدي بعد الموت. "جهنم يصلونها وبئس القرار" [ابراهيم: 29]
الألفاظ السريانية
السريانية أو الآرامية لغة سامية قديمة وكان لها تأثير كبير على العربية، وكل أوزان فعلوت سريانية الأصل، مثل: ملكوت وجبروت وكهنوت إلخ.
وقد ورد في القرآن عدد كبير جداً من الألفاظ السريانية/ الآرامية، منها بعض ما ذكره مار أغناطيوس أفرام الأول في بحثه: "الألفاظ السريانية في المعاجم العربية" (دمشق، مجلة المجمع العلمي العربي، 1984):
أب: في الأصل السرياني "أبَا" ومعناه: ثمرة الفاكهة الناضجة، والفعل في الكلدانية القديمة "أبابا" أي أغلت الأرض وأثمرت. "وفاكهة وأبا" [عبس: 31].
جنة: في الأصل السرياني: "جَنتا"، ومعناها: الحديقة ذات الشجر. "في جنة عالية" [الحاقة: 22].
رحمن: في الأصل السرياني: "رحمانا"، وهي إحدى صفات الرب. "بسم الله الرحمن الرحيم" [الفاتحة: 1].
روح القدس: في الأصل السرياني: "روح قودشا" وهو تعبير سرياني معروف، ومعناه: الروح المقدسة. "إذ أيدتك بروح القدس" [المائدة: 110].
صر: في الأصل السرياني: من الفعل "صرا" ومعناه قطع، وشق، وخرق. "فصرهن إليك" [البقرة: 260].
الألفاظ اليونانية
هناك الكثير من الألفاظ اليونانية في القرآن ذكر بعضها طوبيا العنيسي في كتابه السابق ذكره مثل:
إبليس: في الأصل اليوناني: Diabolos معناه: كذاب ونمّام وهو من أسماء الشيطان. "إلا إبليس استكبر" [ص: 74].
أسطورة: يوناني Istoria معناه: أخبار تاريخية. وقد استعملها العرب بمعنى خرافات وحكايات. "وقالوا أساطير الأولين" [الفرقان: 5].
كافور: في الأصل اليوناني Kafoura وهو صمغ شجرة تنبت في الهند والصين واليابان، أبيض لماع شفاف قابل للاحتراق طيب الرائحة ومر. "كان مزاجها كافوراً" [الإنسان: 5].
مرجان: في الأصل اليوناني Margaron وكذلك Margarites معناه اللؤلؤ والدر، ويطلق أيضاً على العروق الحمراء التي تخرج من البحر كأصابع الكف وهو المشهور. "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" [الرحمن: 22].
برج: في الأصل اليوناني Pyrgos معناه: حصن. "ولو كنتم في بروج مشيدة" [النساء: 78].
الألفاظ اللاتينية
اشتمل القرآن كذلك على بعض الألفاظ اللاتينية أو "الرومية" كما في الأدبيات العربية القديمة، حقق بعضها المحقق التهامي الراجي الهاشمي في كتاب "المهذب لما وقع في القرآن من المعرب" لجلال الدين السيوطي، (صندوق إحياء التراث الإسلامي، طـ1) ومنها:
روم: ويقال أيضاً "الرومان"، وأصلها اللاتيني: Romanum ومعناه: الشعب الذي استوطن إيطاليا أو الإمبراطورية الرومانية. "غلبت الروم" [الروم: 2].
قسطاس: أصلها اللاتيني: Custodia وتدل على معنى الحبس أو الحجز القضائي. واستخدمت قرآنياً بمعنى العدل. "وزنوا بالقسطاس المستقيم" [الشعراء: 182].
كما ذكر طوبيا العنيسي بعض الألفاظ اللاتينية مثل:
دينار: أصلها اللاتيني: Denarium ومعناه عشري، وهو نقد روماني قديم يشتمل على عشر وحدات، وكان الدينار عشرة دراهم عند العرب. "ومنهم من إن تأمنه بدينار" [آل عمران: 75].
صراط: أصلها اللاتيني: (via) Strata ومعناه طريق مبلطة. "اهدنا الصراط المستقيم" [الفاتحة: 6].
قنطار: أصلها اللاتيني: Centenarium ومعناه مئوي من Cetum مائة. وهو وحدة وزن. "وآتيتم إحداهن قنطاراً" [النساء: 20].
الألفاظ الفارسية
فطن المفسرون الأوائل إلى ورود الكثير من الألفاظ الفارسية في القرآن، فقد ذكر الجواليقي في "المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم" (تحقيق خليل عمران المنصور، بيروت: دا الكتب العلمية، 1998) بعض الألفاظ الفارسية مثل:
سجيل: وفي الأصل الفارسي: "سنگ" و"گل"، ومعناه: حجارة وطين. "ترميهم بحجارة من سجيل" [الفيل: 4].
مسك: وفي الأصل الفارسي "مسك" ومعناه: المشموم. "ختامه مسك" [المطفيين: 26].
كنز: في الأصل الفارسي "گنج"، ومعناه في العربية "مفتحٌ". "أو يُلقى إليه كنز" [الفرقان: 8].
سرادق: أصلها الفارسي "سراپرده" وليس "سرادار" كما ذكر الجواليقي، ومعناه: الدهليز." إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها" [الكهف: 29].
فردوس: وفي الأصل الفارسي القديم: Pairidaeza، ومعناه أحاط بالشيء وأحدق به فيكون معنى فردوس لغوياً حديقة وجنة وبستان وروضة. وفقاً لطوبيا العنيسي. "الذين يرثون الفردوس" [المؤمنون: 11].
الألفاظ الحبشية
المقصود باللغة الحبشية هنا اللغة السامية المستخدمة في الحبشة وتحديداً اللغة الجعزية، ومن الألفاظ الحبشية الواردة في القرآن، وفقاً للدكتور عبد الوهاب محمد عبد العالي في بحث "المشترك والدخيل من اللغات السامية في العربية" (مجلة الساتل، ليبيا، العدد الثاني) التالي:
شهر: في الأصل الحبشي: "شهر" ومعناها: هلال. "ليلة القدر خير من ألف شهر" [القدر: 3].
مشكاة: في الأصل الحبشي: "مشكُات" ومعناها: الكوة غير النافذة. "مثل نوره كمشكاة" [النور: 35].
قرطاس: في الأصل الحبشي: "قرطاس" ومعناها: الوعاء الذي تحمل فيه الفاكهة. "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس" [الأنعام: 7].
ومن الألفاظ الحبشية التي يذكرها السيوطي في "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب":
شطر: كلمة حبشية الأصل، ومعناها في العربية: تلقاء. "فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام" [البقرة: 149].
منسأة: كلمة حبشية الأصل، ومعناها في العربية: عصا. "إلا دابة الأرض تأكل منسأته" [سبأ: 14].
حواري: في الأصل الحبشي: "حواريا"، ومعناها في العربية: رسول، كما ورد في الألفاظ السريانية في المعاجم العربية" لمار أغناطيوس أفرام الأول. "وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي" [المائدة: 111].
اللغة النبطية
وهي لغة سامية كان يتكلم بها شعب الأنباط. وذكر جلال الدين السيوطي في "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" (صندوق إحياء التراث الإسلامي، طـ 1) بعض الألفاظ النبطية في القرآن مثل:
إصر: كلمة نبطية الأصل ومعناها في العربية: عهد. "قال أأقررتم وأخذتهم على ذلكم إصري" [آل عمران: 81].
كوب: والجمع أكواب، وفي الأصل النبطي: "كوبا"، وهي الجرار التي ليست لها عرى. "وأكواب كانت قواريراً" [الإنسان: 15].
سري: كلمة نبطية، يرجح أن تكون سريانية الأصل، معناها: نهير، أو جدول صغير. "قد جعل ربك تحتك سريا" [مريم:24].
سفرة: الكلمة نبطية، ويرجح أن تكون سريانية الأصل، تعني القراء أو الكتبة. "بأيدي سفرة" [عبس:15].
قطّ: الكلمة في الأساس نبطية. ومعناها في العربية: كتاب. "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا" [ص: 16].
متعلق:
إرسال تعليق