إياد شربجي - فيسبوك |
زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان في (السادس من آب/ أغسطس 2020) على خلفية انفجار مرفأ بيروت، وبعد ساعات قليلة من زيارة ماكرون ، أكثر من 36 ألف لبناني وقعوا على عريضة تطالب بعودة الإنتداب الفرنسي للبنان.
بالطبع، كان كلاماً أشبه بالصراخ واليأس منه للرغبة والتمني، لكنه مناسبة سانحة للمصارحة وفتح الموضوع بشكل جدي.
بالتأكيد لا أحد منا يفتقر للوطنية، ولا أحد يرغب أن تخضع بلده للوصاية الخارجية، فكيف بمن خرج في ثورات هدفها الاول هو التحرر، ودفع في سبيل ذلك اغلى الاثمان؟
لكن الربيع العربي كشف ما لم نكن نتوقعه، أو أننا كنا نعرفه مسبقاً لكننا لا نرغب بتصديقه، وهو ما طرح علينا السؤال الملح:
- هل الشعوب العربية قادرة على إدارة نفسها حتى لو تخلصت من أنظمتها الديكتاتورية، وهل هي ترغب فعلاً في التحول نحو النموذج الديموقراطي العصري؟
سيكون الجواب التلقائي المباشر الذي سيقوله الاغلبية بثقة مطلقة، (نعم قادرون)، وسيعللون ذلك بإسقاطات تاريخية وجغرافية تخلص إلى أن كل الدول الديموقراطية مرت بمرحلة الفوضى والضياع قبل أن تتعلم من تجربتها وتستطيع الوصول إلى ما وصلت إليه اليوم.
هكذا يلخصون رؤيتهم بالنظر بعيداً دون النظر إلى انفسهم، ما يجعلنا نصطدم بسؤال موضوعي يضع مصداقية هذا التصور والاسقاط على المحك:
- هل يجوز في الاصل أن نقارن أنفسنا بالشعوب الأخرى ؟.
- هل نحن مثل الفرنسيين الذين ثاروا على الملكية والكنيسة واتخذوا قراراً كاملاً بالقطيعة مع الماضي، والتوجه نحو الدولة العلمانية الكاملة التي ساوت بين الجميع؟.
- هل نحن مثل الأمريكيين الذين ثاروا ضد العنصرية والتمييز، واتخذوا قراراً بالتوجه نحو دولة العدالة والقانون التي باتت تفتح أبوابها وتنصف حتى المهاجرين إليها الكارهين لها؟.
- هل نحن مثل الألمان بعد الحرب، الذين قرروا طي صفحة العنصرية الآرية ولغة القوة والتوسّع، إلى التصالح التام مع النفس واعادة البناء ضمن الحدود الوطنية وعدم التعدي على الآخرين؟
بالنظر إلى البدائل التي أنتجها الربيع العربي سنجد التالي:- اول تجربة ديموقراطية في مصر انتجت نظاماً ثيوقراطياً، يعلم الناخبون أنه يتخذ الديموقراطية سلماً وتقيّة للوصول إلى حلمه -وحلمهم- الأزلي، وهو اقامة نظام حكم ديني أصبح من مخلفات الماضي.
- في ليبيا أنتج التحرر من الديكتاتورية نظاماً قبلياً سياسياً ذي حامل ديني، يشبه تماماً الحاله الأزلية للمجتمعات العربية التي تصارعت وبنت أمجادها فوق جثث بعضها، كما فعل بنو أمية ببني هاشم، وكما فُعل بهم هم على أيدي بني العباس، وهلمّ جرّاً.
- في سوريا أنتجت انقاسامات شاقولية و أفقية على كل المستويات؛ الطائفية والطبقية والمناطقية والعرقية، كشفت عن عدة مشاريع متناحرة لا يمكن أن تلتقي في أية نقطة، بل أن قيام أي منها يعتمد بشكل أساسي على إفناء الاخرى، كالمشروع العربي-الكردي، والوطني-الاسلامي، ومشروع النظام-المعارضة.
- حتى في تونس التي تعتبر أنجح وأنضج تجربة ثورية عربية، ولم تلوّث بالدم والعوامل القهرية التي أثّرت بالتجارب الأخرى، فإن جوهر صراعها السياسي ما يزال حول هوية الدولة هل هي علمانية أم دينية، وطنية تونسية أم قومية عربية، وهو ما يجعل من المستحيل التأكّد أن هذا الصراع لن يتجه نحو الصدام العنفي في المستقبل.
سيقول أحدهم، ما تعيشه الشعوب العربية هو مرحلة انتقالية ضرورية قبل العبور نحو الديموقراطية الكاملة.
هذا الكلام صحيح نظرياً، لكنه خاطئ تطبيقياً.
عندما تكون قلوب وعقول الغالبية الغالبة للشعوب العربية متعلقة بالماضي تحلم بإعادة احياء نظام الخلافة، أو على الأقل تأسيس دولة وطنية ذات مرجعية دينية، وعندما تكون المواطنة خاضعة للانتماء العقائدي أو العرقي، وعندما يكون سقف فهمها للديموقراطية هو الوصول إلى ديكتاتورية الأغلبية وفرض إرادتها على الأقليات، وعندما يكون سقف صراعها الفكري والوجودي في عصر الفضاء والانترنت ما يزال متوقفاً عند محاربة «العلمانية والإلحاد والرأسمالية»، وعندما تنظر لماضيها التوسعي القهري كبطولات تتفاخر بها وتتخذ من قهروا أجدادها وجنوا العذاب لمستقبلها رموزاً لها تسمي بهم أبناءها ومدراسها ومستشفياتها، وعندما تنظر للعالم كخصم أيدلوجي وساحة صراع عقائدي أزلي، وتحيل كل هزائمها وفشلها إلى مؤامراته ودسائسه، وتربي أبناءها على أن قيامهم ووجودهم يرتبط جذرياً بهزيمة خصومها واخضاعهم بالقوة.
فهل يمكن القول بعد كل ذلك أن هذه الشعوب جاهزة للانتقال لعصر الديموقراطية والعدالة والمساواة وتحقيق قيم الدستور والقانون والتصالح مع الماضي، أو حتى أنها تخطط لذلك مستقبلاً؟
برأيي الشخصي، طالما نحن لا نريد ولا نرغب ولا ننوي اتخاذ قرار بالقطيعة مع الماضي و إرثه، والتخلص من أحماله وأدبياته، والتعلم والاقتداء بالأمم التي تجاوزتنا بمراحل، فإن ما ندعيه من مطالب بالحرية والديموقراطية هي مجرد لبوس كاذب ومصطلح مستورد نتكئ عليه لتسويق مشروعنا الذي نخفيه في قلوبنا إلى حين التمكّن.
أمام هذا الواقع الذي لم يعد خافياً على أحد، وبعد أن اختبرنا بدمائنا وأرواحنا البدائل الذي نستطيع انتاجها، ربما الحل العملي الوحيد هو خضوع دولنا وشعوبنا للوصاية السياسية والادارية وحتى العسكرية من الأمم المتطورة، وهذا يتطلب منا أن نظهر نية واضحة لذلك حتى نستطيع اجتذابها، لا أن نفعل كما فعل العراقيون بالأمريكيين الذين مهما كان سبب تدخلهم، إلا أنهم قلعوا لهم صدام الذين لم يكونوا ليحلموا بالتخلص من حكم نسله لقيام الساعة، وبدل أن يجدوها فرصة تاريخية ليبنوا وطنهم كما فعل اليابانيون والألمان الذين احتلتهم أمريكا ايضاً، فقد عادوا للسلاح، وتقاتلوا سنة وشيعة، وشكلوا كتائب ارهابية أسموها (مقاومة) بدأت تقتل الأمريكيين رافعين صور صدام، مدعين أن امريكا تسرقت نفطهم، على اعتبار ان نفطهم كان لهم في عهد صدام..!!!
لقد خصعنا نحن السوريون للانتداب الفرنسيين الذي كان له الفضل الأوجد بتخليصنا نظام الخلافة الوراثي الذي لم ننتج غيره طيلة تاريخنا، وصدر لنا دستوراً عصرياً، وجمهورية عصرية، وبرلماناً ديموقراطياً كتب فيه أجدادنا وثيقة استقلال بلدهم عن الفرنسيين الذين كانوا يحرسونهم خارج جدران البرلمان، كذلك فعل الانكليز في مصر، وأنتجوا طبقة من الرجالات الوطنيين الذين كانوا يمكن أن يكونوا الأباء المؤسسين لأمتنا، قبل أن نعود لعادتنا القديمة، وتثور عليهم شعوبنا بقيادة ابناء الماضي من القومجيين والاسلاميين، وينتجوا لنا أنظمة القهر التي دمرت حواضرنا ومستقبلنا، والتي نعود فنقول أن الغرب نصّبها على رقابنا، على اعتبار أنه لو لم يفعل ذلك لكناّ صرنا بمصاف الدول الاسكندنافية...!!
لنبتعد قليلاً عن الهراء والأوهام، الحقيقة التي لا تخطؤها عين وعقل تقول ان الدول الغربية التي نعتبرها سبب قهرنا ومصدر المؤامرات علينا، من مصلحتها الكاملة أن تكون دولنا ديموقراطية حرة مثلها، فهذه هي الوسيلة الأفضل والأوفر لها لتقيم علاقات تبادل مصالح دائمة ومستقرة معنا، لا تنغصها حروب وثورات وانقلابات، علاقات منفعة متبادلة كالتي قامت بين بريطانيا وهونغ كونغ، وأمريكا وكوريا الجنوبية، بالتأكيد هذه الدول الصناعية تحتاج ثرواتنا لتدور عجلتها الحضارية التي سنستفيد منها نحن في نهاية المطاف، ولو كنا عقلاء لكنا شاركناه معها بطيب خاطر، أصلاً لم يكن ممكنا لنا استكشافه وانتاجه وبيعه لولاها.... بالتأكيد هذا السيناريو أفضل للغرب من الديكتاتوريات القومية والعقائدية ومن أمواج اللاجئين والقتلى والمجاعات والحروب والارهابيين التي تكلفهم أضعاف ذلك.
على أن كل ما سبق يبدو بعيداً الآن، بعد نتائج الربيع العربي، يمكن القول أن الغرب صار يفضل الصمت على الديكتاتوريات في المنطقة لأنها تستطيع ابقاء مشاكلها ومصائها داخل حدودها.
هذا رأي يحتمل الخطأ والصواب، لكنه تفكير خارج الصندوق الذي دفنّا أنفسنا فيه طيلة عقود وقرون.
إرسال تعليق