رامي يحيى - المصطبة |
الجنس عموما و المثلية الجنسية خصوصًا من أهم الموضوعات المثيرة لحفيظة المواطن الشرق أوسطي خصوصًا المسلم، أي نعم.. إنه نفس ذات المواطن الأكثرًا بحثًا عن المواد الإباحية بكافة أشكالها وأنواعها على شبكة الأنترنت.
في العلن يرفض العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج.. وفي الخفاء هي هدفه الأول حتى وإن كان متزوجًا، بعيدًا عن تصالح أغلب مجتمعات الشرق الأوسط مع العلاقات الزوجية منزوعة الجنس، فعلاقتهم (خصوصا المسلمين منهم) مع الجنس عموما والمثلية الجنسية خصوصًا متوترة جدًا.. آراها أقرب لمقولة: (يكاد المُرِّيب أن يقول خُذُوني)، فآرى أن حالة الإنكار الشديدة للحرية الجنسية وخاصة المثلية منها هي محاولة لإنكار الأمر الواقع في الخفاء من ناحية والتاريخ المُثبت من ناحية آخرى.
الأمر الواقع متروك رصده لكل قارئ/ة على حدا، من منكم لم يعايش أو يسمع عن قصة جنسية تعتبر شديدة الفجور ومع ذلك تم تمريرها والتعامل مع أفرادها فيما بعد بشكل طبيعي أو شبه طبيعي، أو تم إنزال العقاب على الحلقة الأضعف والتغاضي عن “جُرم” الحلقة الأقوى (الأقوى والأضعف حسب تصنيف كل مجتمع)، هذا الأمر الواقع استطيع أن أشير له فقط بحالتين في مجتمعي المصري الحبيب.
الحالة الأولى هي فارق التعامل مع نجمات الفن ونجمات “التيك توك”، والحديث هنا ليس فقط عن التعامل الشعبي والرسمي بل وحتى على مستوى النخب، لا أنكر حالة الانتقاد اللاذع والهجوم التي قابلت وتقابل العديد من الفنانات لكن كذلك لا يمكن إنكار أو تجاهل حقيقة أن هامش الحرية أكبر بكثير لديهن عن نجمات “التيك توك”، والملفت أكثر بالنسبة لي هو الموقف الإزدواجي للكثير من المحسوبين على النخبة.
أيضًا الموقف المتناقض لكل هذه الأطراف من فنانين مثليين، تغاضى الجميع عن مثلية الأول (إلا في نكاتهم السرية التي تؤكد رفضهم للفكرة) والهجوم الضاري على الثاني، الفارق الوحيد بين النموذجين أن الأول رجل دولة والثاني مُعارض.
أما على المستوى الشخصي للمواطنين من المثلية الجنسية فلا يسعني إلا تقديم خريطة إيضاحية نشرها أحد المواقع الإباحية الشهيرة، في 2018م، لتوضيح توزيع اهتمامات جماهيره حول العالم بأقسامه المختلفة.
دعونا الآن من الأمر الواقع، لإنه يختلف من مجتمع لأخر.. بل ومن شخص لأخر، ودعونا نسبح معًا في التاريخ.. فهو شبه موحد بحكم الهيمنة العروبية-الإسلامية على المجال العام للمنطقة، كما إن المطالبين بمطاردة المثليين كالساحرات في أوروبا العصور الوسطى أغلبهم يتحججون بموقف الأديان الإبراهيمية منها، متمثلة في قصة سادوم وعامورة في المسيحية أو النبي لوط في الإسلام.
بحكم مرجعيتي الثقافية والأهم بحكم علو صوت المسلمين وتوليهم مهمة الهجوم الرهيب بالقول والفعل ضد كل من هو مختلف جنسيا عن ما هو سائد سأركز على رصد تاريخ الجنس عمومًا والمثلية الجنسية خصوصًا في الأمبراطورية الإسلامية.
الجنس في الجاهلية:
بالطبع لم يخترع الإسلام أو يُعَلِم العرب العلاقات الجنسية بدون زواج أو المثلية الجنسية، فقد عرفهما العرب قبل ظهوره بسنوات بعيدة، فعُرفت الداعرات باسم صاحبات الرايات الحمر، وكان التعامل معهن أمر شائع وراسخ لدرجة أن سُنت له قوانين خاصة بحسم قضايا النسب.. حيث تم استخدام “قصاصو الآثر” كبديل لتحليل الـDNA في ذلك العصر.
ويعد عمرو بن العاص هو أشهر من ارتبط اسمه بتلك النسوة.. ليس لإرتياده عليهن إنما نسب إلى إحداهن، فحسبما ورد في العديد من كتب التراث الإسلامي مثل السيرة الحلبية ومروج الذهب والعقد الفريد وغيرهم؛ إن الصاحبي الشهير هو ابن إحداهن واسمها النابغة بنت خزيمة، قيل في المصادر المذكورة إنها جامعت أربع من سادة قريش في ذات اليوم.. وحين حملت ووضعت مولودها نسبته للعاص ابن وائل، فكان لها ما قالت. وهي رواية يتعصب لصحتها البعض ويتعصب لنفيها البعض كأغلب المرويات.
أمّا المثلية الجنسية فلم ترد روايات كثيرة تتحدث عنها، وإن كان الأمر لا يخلو من روايات غير موثوقة ولا منضبطة مثل التي ربطت بين زرقاء اليمامة وبنت ملك الحيرة هند بنت النعمان. ويبقى كتاب جوامع اللذة للفيلسوف علي القزويني أحد أهم المراجع الجنسية العربية هو ونواضر الإيك في معرفة النيك للإمام السيوطي.
مع علو شأن العرب وتأسيسهم أمبراطورية أخذت في التوسع شرقًا على حساب الفُرس وغربًا على حساب البيزنطيين؛ أخذ اهتمامهم بالتدوين يزيد، ليصل ذروته في عهد الدولة العباسية الذي يعرف بالعصر الذهبي. وخلفت تلك الفترة الذهبية ألاف المخطوطات التي ترشدنا بعضها لشكل الحياة الجنسية في تلك الأزمان.
بني أمية والتأسيس لشهوانية البلاط
في عهد الدولة الأموية شهد بلاط الخلافة بداية الانفتاح الجنسي، حيث ولأول مرة بدء تخصيص نساء لممارسة الجنس فقط، وذلك تحت بند ملك اليمين، ومن الواضح أن هذا التوجه الجنسي بدء مبكرًا جدًا، فكما جاء في رسائل الجاحظ (كان معاوية يؤتي بالجارية فيجرَّدها من ثيابها بحضرة جلسائه، ويضع القضيب على رُكَــبها، ثم يقول: إنه لمتاع لو وجَد متاعًا! ثم يقول لصعصعة بن صُـوجان: خذها لبعض ولدك، فإنها لا تحـلُّ ليزيد بعد أن فعلتُ بها ما فعلتُ).
تجذر الهوس الجنسي في بلاط الخلافة بشكل كبير وسريع، فكما ذكر أبي شيبة في مصنفه توكيد لما رواه الإمام السيوطي عن قول عبد الملك بن مروان: (من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية، ومن أراد أن يتخذ جارية للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية). وحالة التنظير هذه تشي بوجود خبرات متراكمة في هذا الزمن القصير نسبيًا بين الخليفة الأول والخليفة الخامس.
مع نهايات حكم بني أمية وصل الأمر إلى مستويات غير مسبوقة أسست لمستقبل داعر لبلاط خليفة المسلمين، في عام 743م أُصبح الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الخليفة رقم 11 الذي يجلس على عرش الأمبراطورية الإسلامية، ولم يدم حكمه إلا عام واحد، لكنه كان كفيل بتلقيبه بـ الخليفة الفاسق، يكفي القول أن الرعية خرجوا عليه ليس لأسباب سياسية أو اجتماعية كأغلب الثورات.. بل خرجوا عليه لشدة فسوقُه ومجونه وقيل إنه كفر وتزندق، لكن الإمام الذهبي نفى عنه تهمتي الكفر والزندقة قائلًا: (لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك).
كان أمير المؤمنين بخلاف الفسق يكتب الشعر متفاخرًا بأفعاله.. ومن أشهر ما نسب إليه في سياقنا هذا قوله:
أدنيا مني خليلي عبد اللإه من دون الإزار
فـلقد أيقـنت أني غـير مبعـوث لنار
وأتركا من يطلب الجنة يسعي في خسار
ومن نافلة القول إيضاح أن عبد اللإه هذا.. ذكر، قيل أنه غلام مملوك له.. وكان يفعل به فعل قوم لوط.
أما أشنع ما نسب له من شطحات جنسية كان مراودته لـ…، اسمحوا لي أن أتركها للشيخ عدنان إبراهيم يرويها هو.
دولة بنو العباس.. أو عصر الغلمان
انطلق بنو العباس من حيث انتهى أسلافهم فأطلقوا شهواتهم لأبعد مدى ووصل البلاط إلى أعلى مستويات المجون والهوس الجنسي، فعاشت الأمبراطورية الإسلامية أزهى عصور الحرية الجنسية.. وتواكب هذا مع حركة نهضة كبيرة للدولة، فيما يعرف بالعصر الذهبي.
في أوج هذا العصر صعد للعرش أول خليفة مثلي جنسيًا تمامًا وعاش هذا بشكل علني، نجد أم أحد الخلفاء تنتقي له جواري أقرب شبها جسمًا ورسمًا بالغلمان، وأخر نجده لا يعرف عدد جواريه، وثالث يتودد وجهاء الدولة ووزرائها لغلامه حتى يقضي حوائجهم. انتشر الأمر كذلك خارج حدود البلاط.. فوضع العديد من الكتاب مخطوطات ترصد الحياة الجنسية للمجتمع أو للبلاط، بل تجرأ الكثيرون وأعلنوا عن ميولهم المثلية في مؤلفاتهم مثل أبو نواس.
أعتدنا على تلقيب الشخص الغارق في الشهوات الجنسية بـ هارون الرشيد، ودأب الإسلامييون على تنقية سيرته ووصفه بالرجل الذي كان يغزو عام ويحج عام، وهنا سنرصد الجانب الجنسي في حياة ولديه الأشهر الأمين والمأمون وغيرهما من الخلفاء العباسيين.
حسبما أورد الطبري فأن الأمين كان مثليًا خالصًا، حيث أشتهى الغلمان والخصيان وزهد في الجواري الحسان بل ورفض حتى الحرائر منهن، ما دعى أمه زبيدة بنت جعفر المنصور إلى انتقاء جاريات غلاميات الهيئة وألبستهن ملابسهم عل ولدها يجد ميلًا لهن، لكن مجهودها ذهب أدراج الرياح.. فقد انصرف ولدها عنهن متمسكًا بميله للذكور دون الإناث، ولم يرد ذكر مصير النساء الغلاميات بعد أن عَفَّهُمَا الخليفة الذي مخلصًا للذكور عمومًا وعشيقه كوثر على وجه الخصوص.. والذي كتب فيه هذا البيت من الشِعر.
كوثر ديني ودُنياي وسقمي وطبيبي.. أعجزُ الناس الذي يُلحي محبًا في حبيب
أما أخيه المأمون، والذي يزين اسمه أحد الشوارع الكبرى في ضاحية مصر الجديدة، فكان معروفًا بعشقه للنساء.. فامتلأ بلاطه بالجواري والحرائر على حد سواء، لكنه لم يكتفي بهن.. بل أخذ نصيبه أيضًا من مواقعة الذكور.
ومواقعته للذكور لم تكن من باب الاستكشاف أو ما يمكن أن يُشَار إليه بمرور الكرام، فقد ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء ما يشير إنه كان ثنائي الميول، حيث قال أن المأمون اتخذ لنفسه عشيق اسماه مُهج، وبلغ تعلقه به مبلغًا شديدًا فصارت للغلام حظوة كبيرة لدى الخليفة.. حتى صار الوزراء ورجال الدولة يتقدمون بمطالبهم عبر العشيق ليضمنوا قضاء حوائجهم. وشابه المأمون أخيه الأمين في التغزل شعرًا بمملوكه حين قال:
مُهج يملُك المُهج … بسجى اللحظ والدعج
حسن القد مخطف … ذو دلال وذو غنج
ليس للعين إن بدا … عنه باللحظ منعرج
توالى الخلفاء العباسيين وتوالى ظهور الغلمان النافذين، فمع الخليفة المتوكل ظهر عشيقه شاهك، ثم جلس المعتصم على العرش.. فاقتنى الألاف من الغلمان التُرك، حسب مروج الذهب للإمام المسعودي. ومع ضعف الدولة العباسية والسماح بظهور دولة المماليك انطلاقًا من مصر، انتشر البغاء بشكل أكثر وضوحًا، ما رصدته د. سامية مصلحي تحت عنوان البغاء في مصر في العصر المملوكي.
الخلافة العثمانية.. وانتقال التُرك من خانة المفعول به إلى خانة الفاعل
بصعود العثمانيين وتقويضهم سلطة بنو العباس وإعلان دولتهم تغيرت موازين القوى وانتهى عهد استرقاق الأتراك، لكن لم يتغير شئ على مستوى الطابع الشهواني لبلاط الخلافة، فقد حرص السلاطين العثمانيين على اقتناء الجواري وأيضًا الغلمان، وأزدهر في عصرهم الأدب الأيروتيكي.. خاصة بعد استكتاب سليم الأول لأحمد بن سلمان الشهير بـ ابن كمال باشا ليضع كتابه الأشهر رجوع الشيخ إلى صباه.
كما تميز عصر العثمانيين بابتكار قمصان مخصصة ليرتديها السلطان عند ممارسة الجنس، وقد عاش عدد من هذه القمصان حتى الآن.. ويعرضون حاليًا في أحد المتاحف التركية، ويعد أشهرها هو قميص السلطان مراد الثالث.. بسبب نقشه باسماء الله الحسنى وأبيات من بردة البوصيري ومفردات أخرى ذات مرجعية دينية كتبت ضمن طلاسم بهدف منح صاحبه القوة الجنسية.
كما شهد عصر الخلافة العثمانية تقنيين الدعارة في عدة ولايات لتصبح متاحة للعامة مقابل أجر، أيضًا أبتكر السلاطين العثمانيين فكرة الحرملك، ليكون مستقر خاص لنساء القصر من زوجات ومحظيات.. وضم أيضًا بجانبهن الخصيان والغلمان.
في حرملك العثمانيين استعادت الحريم منصب “خليفة الظل” من بين أيدي الغلمان، وعادت الزوجات والمحظيات لخطف الأضواء في فراش الحكام من جديد، وتقتنص الممارسة الغيرية الصدارة من الجنس المثلي في بلاط الخلافة الذي حافظ على قوة الحضور الشهواني مع اختلاف نسبي في الميول.
تراجع الدور الجنسي للغلمان دعى النخاسين لتطوير بضاعتهم من الغلمان.. فاهتموا بتدريبهم على الرقص وعزف الآلات وضرب الدفوف، ألبسوهم الملابس النسائية وعلموهم أن يضعوا مساحيق التجميل كالنساء. حتى يكون لهم دور ترفيهي بجانب الجنس.
التراجع النسبي للجنس المثلي أمام الممارسة الغيرية لم يعني على الإطلاق عودة المثلية إلى ظلال السرية، بقيت الممارسات المثلية حاضرة في قصور السلاطين المسلمين لكن بكثافة أقل، لم يفقد الغلمان حضورهم في بلاط السلاطين المسلمين فقط فقدوا الكثير من نفوذهم لصالح الحريم. وبفضل تطوير أدواتهم استمر سوق الغلمان متعددو الأغراض رائجًا، وعرفوا باسم Köçek (كوجيك).
احتفظ هذا التطوير للغلمان ولعالم الجنس المثلي بوجودهما على الساحة، فتغنى الشعراء بالعلاقات المثلية وصورها الرسامون في لوحاتهم. وفي عام 1858م أصدر السلطان عبد المجيد الأول القرار بإلغاء العقوبة القانونية على الممارسة، مُذكرًا أن المثلية الجنسية لا توجد لها عقوبة متفق عليها بين الفقهاء.. وذلك لعدم ورود حَدّ بخصوصها في القرآن.
إرسال تعليق