دخلك بتعرف - عصام بيطار |
لقد تميزت علاقة الإسلام بالعلم خلال الزمن بما يمكن وصفه بعلاقة ”حب وكره“ معقّدة، كالعلاقة بين راشد (العلم) ومراهق (الدين) لا يعلم فيها المراهق ما يريد من شريكه، أو حتى إن كان يريد أن يكون في علاقة معه من الأساس، فقد تراوحت علاقة الإسلام مع العلوم عبر الزمن من العدائية والتحريم، كما فعل أمثال أبي حاتم الغزالي وابن تيمية، إلى الاضطهاد والملاحقة، كما عانى كبار علماء الدولة الإسلامية، ومن ثم المرور بمرحلة تقبل ممتعض، وصولًا إلى الوضع الحالي من تسخير نسخ محرفة من العلوم في سبيل الدين.
يشكل هذا الادعاء أحد أساسيات مجال الإعجاز العلمي في القرآن، ولا يكاد يخلو أي خطاب ديني أو درس إسلامي في موضوع الإعجاز من نسخة من نسخ هذا الادعاء؛ سأعتمد اليوم نسخة عبد الدائم كحيل، ”الباحث“ الإسلامي السوري وأحد أبرز مدّعي الإعجاز القرآني في العالم الإسلامي، موجز هذا الادعاء هو الآتي:
الادعاء:
تدل الدراسات والتجارب أن للكون بداية، وهذه البداية هي الانفجار العظيم، ”ويؤكد العلماء أن الكون يتوسع باستمرار، لأنه بدأ من كتلة واحدة ثم انفجرت هذه الكتلة وتبددت في هذا الكون وتحولت المادة إلى نجوم ومجرات وكواكب“. لكن لا يمكن للكون أن يبدأ بانفجار، ”لأن الانفجارات تكون عشوائية ومدمرة ولا يمكن أن تنتج أي نظام“، لهذا، ”فإن القرآن لم يذكر كلمة ’انفجار‘ أبدًا في بداية الكون، بل نجد القرآن يستخدم كلمة (رَتْقًا) للتعبير عن البداية الحقيقية للكون، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}“.
ثم يضع كحيل الصورة التالية، معبرًا أنها ”صورة مصغرة للكون باستخدام الكمبيوتر العملاق“ تظهر ”الكون على شكل ’نسيج كثيف‘ تم حبك خيوطه بإحكام“، مدعيًا أن ”هذا ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}“.
شكل كوننا على حد تعبير كحيل، والذي على ما يبدو ”يشبه النسيج الكثيف“ برأيه، حقوق الصورة الأصلية تعود لمعهد (ماكس بلانك) للفيزياء الفلكية. |
ويكمل:
ثم بدأ هذا النسيج الكثيف بالانفتاق وتباعدت خيوطه عن بعضها، ولا زال هذا التباعد حتى اليوم وبالتالي فإن الكون يتسع باستمرار وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}.
ثم ينهي كحيل ادعاءه هذا بنقطة أخيرة، وهي:
أن الله تعالى قد حدثنا عن خاصية جديدة للكون وهي خاصية إرجاع الموجات الجذبية على شكل صدى رصده العلماء أخيرًا، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}، أي أنها تُرجع لنا الأحداث التي مرت بها في الزمن الماضي وكأننا نراها!
ملخص الادعاء
يمكن تلخيص هذا الادعاء كالتالي:
أثبتت الأبحاث أن شكل الكون يشبه ”النسيج الكثيف“ الذي تم حبك خيوطه بإحكام، قال القرآن: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}.
إن للكون بداية، وهي الانفجار العظيم، ذكر القرآن هذا في الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}، واستخدم لفظ ”فَفَتَقْنَاهُمَا“ لأن الانفجار لفظ غير دقيق، فالانفجار لا ينتج عنه إلا الدمار وليس النظام.
لا زال الكون في اتساع مستمر حتى اليوم، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}.
هناك صدىً لهذا الانفجار على شكل موجات جذبية تُرجع لنا الأحداث التي مرت بها في الزمن الماضي وكأننا نراها، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}.
الآن وقد اختصرت الادعاء في أربع نقاط موجزة، أصبح بالإمكان تفنيد هذا الادعاء بشكل منظم وفعال نقطة بنقطة.
كخطوة أولى، سأتحدث عن ثلاث قواعد أساسية أستخدمها عند التعامل مع ادعاءات الإعجاز العلمي في القرآن، وهي كالآتي:
كي يكتسب ادعاء ما وصْف الإعجاز، عليه أن يحقق ثلاثة شروط:
على الدليل (الآية أو الحديث) المستخدم في الادعاء أن يصف الواقع بدقة، فلا يكفي أن يكون مجرد تلميح أو تشبيه بعيد، وهذا يمكن الاستدلال عليه عبر تفحص صياغة الدليل إلى جانب الحقيقة العلمية ذات الصلة.
يجب أن لا يكون هناك أي تفسير آخر للدليل أكثر بساطةً من التفسير المعطى، وإلا فالمنطق السليم هو اعتبار التفسير الأبسط؛ بمعنىً آخر، على الدليل أن يتجرد من أي إبهام أو مطاطية تسمح بتأويله على أوجه أخرى، فإن احتمل الدليل وجهين أو أكثر، فالوجه الأبسط هو الأحق بالأخذ به.
في حال تحقق الشرطان أعلاه، يجب أن يستحيل توفر المعلومات المعطاة في هذا الدليل لدى أي إنسان في ذلك الوقت، أي يجب ”إثبات“ أنه لا يمكن الحصول على هذه المعلومات إلا عبر ”وحي سماوي“، وفقط عندها يمكن الجزم في إعجاز هذا الدليل.
سأستعرض الآن الادعاءات الأربعة جنبًا إلى جنب مع القواعد الثلاث آنفة الذكر لكي نفحص بشكل موضوعي مصداقية هذه الادعاءات.
تفنيد الادعاء الأول:
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ).
1. هل يصف هذا الدليل الواقع بدقة؟
يدعي كحيل أن ”الحُبُك“ في هذه الآية يعني النسيج، وأن الكون عبارة عن ”نسيج كثيف“، وعليه فهذه الآية تتنبأ بما نراه في الصورة المرفقة أعلاه، إلا أن أي نظرة دقيقة في الصورة تظهر مباشرةً مدى استخفاف كحيل بعقول متابعيه، فالصورة (والتي هي عبارة عن محاكاة حاسوبية) تظهر توزيع المادة المعتمة في الكون في الوقت الحاضر، وليست ”صورة مصغرة للكون“ كما يدعي كحيل. بالإضافة، فإن الصورة المرادفة للصورة أعلاه، والتي تبين توزيع المادة الحقيقية في الكون، تظهره على شكل شبكة من العناقيد العملاقة من المادة المحيطة ببقع من الفراغ.
لا أدري ما هو نوع ”النسيج الكثيف“ الذي يعرفه كحيل، لكن إن أتاني بائع أنسجة بنسيج مليء برقع خالية من القطن فلن أشتريه منه.
الصورة المرادفة لصورة توزيع المادة المعتمة تظهر توزيع المادة في الكون، وهي أشبه بالشبكة المحيطة ببقع من الفراغ، وليس النسيج الكثيف – حقوق الصورة لمعهد ماكس بلانك للفيزياء الفلكية |
2. هل هناك أي تفسير أو تأويل آخر لدليل الادعاء أكثر بساطةً وإمكانية من التفسير المعطى؟
يقول ابن كثير، المفسر الإسلامي الشهير، في تفسيره للآية سابقة الذكر: ”(والسماء ذات الحبك) قال ابن عباس: ذات البهاء والجمال والحسن والاستواء، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك، وأبو صالح، والسدي، وقتادة، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، وغيرهم.“
وتطرق ابن كثير لعدد من التفسيرات الأخرى لتلك الكلمة، لكنه أنهى بقوله: ”وكأنه –والله أعلم– أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة، وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع. وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، وهو الحسن والبهاء، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة، شديدة البناء، متسعة الأرجاء، أنيقة البهاء، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات، موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات.“
ويوافق كل من الطبري: ”والسماء ذات الخَلْق الحسن“، والقرطبي: ”ذات الخلق الحسن المستوي“ تلك النظرة.
وبهذا فمن الواضح أن أغلبية الفقهاء وخبراء القرآن من المسلمين يخالفون كحيل في معنى هذه الآية، وبالتالي يفشل هذا الدليل في تحقيق الشرط الثاني.
3. هل يحتوي هذا الدليل معلومات يستحيل معرفتها إلا من خلال وحي رباني؟
حتى لو افترضنا أن معنى كلمة ”الحُبُك“ في الآية السابقة هو ”النسيج“ (كما يرد في إحدى روايات القرطبي، قائلًا ”ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه“)، فكما رأينا، لا يشكل الكون أي نوع من أنواع النسيج، فالكون ثلاثي الأبعاد ويتكون من كتل من المادة ومساحات شاسعة من الفراغ، وحين يتكلم العلماء عن ”النسيج الزمكاني“ فهم يعنون بذلك نسيجًا مجازيًا وهو بعيد كل البعد عن ادعاء كحيل، ناهيك عن أن هناك ستة معانٍ أخرى غير هذا المعنى واردة في القرطبي وحده؛ وعليه، فالمعلومة التي يوفرها هذا الدليل غير صحيحة، وبالتالي لا معنى من تطبيق هذا الشرط عليها.
تفنيد الادعاء الثاني:
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ).
1. هل يصف هذا الدليل الواقع بدقة؟
لقد أصاب كحيل حين قال أن لفظ ”انفجار“ غير دقيق في وصف بداية الكون، فالاسم الحركي لنظرية نشأة الكون (The Big Bang) نشأ في الواقع بفضل عالم الفلك الإنجليزي (فريد هويل)، والذي كان يفضل نموذج الكون الثابت، حين صرح ساخرًا سنة 1949 على راديو قناة الإعلام البريطانية BBC قائلًا: ”تعتمد هذه النظريات على الفرضية القائلة بأن كل المادة في الكون قد تم إنشاؤها في انفجار واحد كبير في وقت محدد في الماضي البعيد“، لكن الاسم الحركي للنظرية لا يعبّر عن مبادئها العلمية.
وبالمثل، كما رأينا من تحليل النقطة الأولى، لا يعبّر لفظ ”الفتق“ عن الحقيقة كذلك، نظرًا لأن الكون لا يمثل النسيج بأية طريقة.
بالإضافة، يعتبر لفظ الفتق هذا غير دقيق لسبب آخر، ألا وهو أن الأرض لم ”تُفْتَق“ أو تُفصل بأية طريقة عن ”السماء“ (وهو مصطلح أثري آخر لا يصف الواقع بدقة، إذ أن السماء ليست جسمًا حقيقيًا، بل هي منظور نسبي يعتمد على الكوكب الذي يقع فيه المراقب، فالسماء من سطح الأرض تختلف كليًا عن السماء من سطح المريخ، ولا معنى لهذا المصطلح خارج نموذج الأرض المسطحة، والذي اعتقد به محمد ومعاصروه، ولهذا نرى العديد من الآيات القرآنية التي تبدو غريبة وبلا معنى، كالآيات التي تتكلم عن ”رفع“ السماء و”بلا عمد“، وكأن ”السماء“ كانت ”لتقع“ على الأرض بلا تدخل إلهي – كلها آيات تدل على فهم القرآن البدائي والخاطئ لطبيعة الكون).
لو أردنا تعديل لفظ السماء ليواكب النظرة الحقيقية للكون، سيصبح المقصود في لفظ ”السماء“ في هذا السياق هو ”كل شيء خارج الأرض“، أي بقية الكون.
إن اللفظ العلمي الدقيق لولادة الكون هو التمدد، فبعد حدوث ”الانفجار“ العظيم، تمددت مليارات الأطنان من ذات المادة إلى أن بردت وكونت ذرات الهيدروجين تحت تأثير الجاذبية، والتي بدورها كونت أولى نجوم الكون، والتي صهرت في لبها ذرات الهيدروجين لتكوّن الذرات الثقيلة. وبعد انفجار تلك النجوم وتناثر مكوناتها، تكونت نجوم أخرى، بما فيها نجمنا، وتكونت الكواكب من الذرات الثقيلة المنبثقة من أحشاء تلك النجوم الميتة، بما فيها أرضنا.
إن الفاصل الزمني بين تكوّن الكون وتكوّن الأرض هو تسعة مليارات سنة، ولذلك تفشل الآية أعلاه في وصف الواقع بدقة، إذ تصف الآية أن الأرض و”السماء“ كانتا جسمًا واحدًا ثم انفصلتا، أي أن الأرض والسماء (باقي الكون) وجدتا معًا في ذات الوقت، وهذا خطأ علمي فادح، وعليه، فإن الآية أعلاه تفشل في تحقيق الشرط الأول: فهي لا تصف الواقع أبدًا.
2. هل هناك أي تفسير أو تأويل آخر للدليل أكثر بساطةً وإمكانية من التفسير المعطى؟
هذا رأي ابن كثير في معنى هذه الآية: ”(أن السماوات والأرض كانتا رتقًا) أي: كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، فجعل السماوات سبعًا، والأرض سبعًا، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض […] وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه، وقال الحسن، وقتادة، كانتا جميعًا، ففصل بينهما بهذا الهواء.“
والجدير بالذكر أن هذا التأويل شبيه جدًا بأسطورة الخلق اليهودية كما ترد في سفر التكوين:
فِي البَدءِ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالأرْضَ […] ثُمَّ قالَ اللهُ: {لِتَكُنْ قُبَّةٌ بَينَ المِياهِ لِتَقسِمَ المِياهَ إلَى قِسْمَينِ}، فَخَلَقَ اللهُ قُبَّةَ السَّماءِ، وَفَصَلَ المِياهَ الَّتِي تَحْتَ القُبَّةِ عَنِ المِياهِ الَّتِي فَوقَها، وَهَكَذا كانَ. وَسَمَّى اللهُ القُبَّةَ ”سَماءً“ […] ثُمَّ قالَ اللهُ: {لِتُجْمَعِ المِياهُ الَّتِي تَحْتَ السَّماءِ مَعاً فِي مَكانٍ واحِدٍ، لِكَي تَظْهَرَ اليابِسَةُ}، وَهَكَذا كانَ. وَسَمَّى اللهُ اليابِسَةَ ”أرْضاً“، وَسَمَّى مَكانَ تَجَمُّعِ المِياهِ ”بِحاراً“.
نرى هنا التشابه الشديد بين الرواية التوراتية (خلق مادة واحدة، فصلها لنصفين، جعل النصف الأول سماءً والنصف الثاني أرضًا) وبين الرواية القرآنية (خلق السماء والأرض كجسم واحد، فتق الأرض عن السماء وفصل الواحدة عن الأخرى)، ويتعزز هذا التشابه في الآيات اللاحقة، فالقرآن يحذو حذو التوراة في الانتقال من الحديث عن فصل السماء والأرض للحديث عن الماء والحياة، تمامًا كما تكمل أسطورة الخلق التوراتية: ”…كَما خَلَقَ جَمِيعَ المَخلُوقاتِ الحَيَّةِ الَّتِي تَفِيضُ بِها المِياهُ.“ – {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}.
وهكذا تفشل الآية في تحقيق الشرط الثاني، فالتأويل الأبسط هو ما ورد في تفسير ابن كثير بما يشابه بشكل كبير أسطورة التكوين اليهودية، دلالةً على اقتراض القرآن أسطورة الخلق خاصته من اليهود، وليس من وحي إلهي مُعجِز.
3. هل يحتوي هذا الدليل معلومات يستحيل معرفتها إلا من خلال وحي رباني؟
بما أن المعلومات الواردة في الادعاء والدليل غير دقيقة، لا معنى من تطبيق الشرط الثالث عليه.
تفنيد الادعاء الثالث:
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ).
1. هل يصف هذا الدليل الواقع بدقة؟
الجواب هو بالتأكيد نعم، فالكون في اتساع مستمر.
2. هل يحتمل الدليل وجهًا آخرا أبسط من التفسير المعطى؟
يقول ابن كثير: ”(وإنا لموسعون)، أي: قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد، حتى استقلت كما هي“.
إن لم تقتنع بوجود اللفظ الماضي ”قد وسّعنا“، فوجود جملة ”حتى استقلت كما هي“ كافية لإزالة أي إبهام عن المعنى الحقيقي للآية، وهو أن الله قد خلق السماء واسعة وعالية منذ البداية، ولا تلميح أو تصريح بأن عملية الإيساع هذه مستمرة.
يوافق ابنَ كثير جلَّ علماء التفسير المسلمين، ومنهم الطبري ”لذو سعة بخلقها وخلق ما شئنا أن نخلقه وقدرة عليه“، والقرطبي ”قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة […] وقيل: جعلنا بينهما وبين الأرض سعة“، وحتى السيوطي في تفسير الجلالين ”صَارَ ذَا سِعَة وَقُوَّة“.
ومن هذا يتضح أن المعنى المفهوم من الآية السابقة هو أن السماء واسعة، وأن الله ذو سعة وقدرة على خلقها وخلق ما تحتها، وكما نرى، لا وجود لتصريح باستمرارية إيساع السماء بأية طريقة.
3. هل يحتوي هذا الدليل معلومات يستحيل معرفتها إلا من خلال وحي رباني؟
لا يستلزم الأمر إلا الخروج ليلًا والنظر إلى السماء كي يشعر محمد بسعة الكون (السماء)، وبما أنه أمضى الكثير من أيامه في التأمل، من الطبيعي أن يتكلم عن ”سعة خلق الله“ في كتاباته.
تفنيد الادعاء الرابع:
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ).
1. هل يصف هذا الدليل الواقع بدقة؟
يدّعي كحيل أن الموجات الجذبية تعود على شكل صدىً و”تُرجع لنا الأحداث التي مرت بها في الزمن الماضي“، لكن الحقيقة أنه لا علاقة للموجات الجذبية برؤية ماضي الكون.
تفترض العديد من النماذج الكونية أنه كان هناك حقبة تضخمية في التاريخ المبكر للكون، حيث توسع الفضاء بشكل مضاعف خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا، وإذا تم افتراض أن هذا التمدد لم يكن متماثلًا في جميع الاتجاهات، فالمفترض أن يكون هذا التوسع قد أطلق أمواجًا جذبية يمكن رصدها اليوم كخلفية كونية (خلفية الموجات الجذبية) – كدليل على هذا التمدد، وليس كنافذة إلى ماضي الكون.
إلا أن مثل هذه الخلفية من الضعف بمكان بحيث لا يمكن لأي كاشف موجات جذبية معاصر رصدها بعد، ويُعتقد أنه قد يستغرق الأمر عقودًا قبل التمكن من رصدها.
بناءً عليه، تبقى هذه الخلفية نظرية دون أي رصد، وبالتالي يخطئ كحيل حين يزعم أننا ”نرى ماضي الكون“ من خلال رصد موجات لم ترصد قط.
لكن في سبيل إنصاف كحيل، سأفترض أن جهله في علوم الفيزياء الفلكية هو ما أدى به لهذا الخطأ، وسأعينه هنا من خلال تصحيح خطئه هذا فيما يخص مشاهدة ماضي الكون.
في الحقيقة، نعم، نحن نقوم بطريقة غير مقصودة ”برصد“ ماضي الكون السحيق، وذلك بسبب خواص الكون الفيزيائية، من خصائص الكون الفيزيائية أن للضوء سرعة محدودة، هذا يعني أن الضوء يستغرق وقتًا للسفر من النقطة المرصودة إلى نقطة الرصد، وكلما ازدادت المسافة بين المرصود والراصد، ازدادت المدة المستغرقة لوصول الضوء من المرصود لعين الراصد، أي أن الصورة التي تصلنا عن المرصود متأخرة بمقدار الوقت اللازم للضوء الذي يشكل هذه الصورة للسفر من المرصود لأعيننا (فكّر بالوقت الضائع بين رؤية البرق وسماع صوته، بسبب الوقت المستغرق من قبل الموجات الصوتية للوصول لأذنك).
مثلًا، يستغرق الضوء للوصول إلى الأرض من الشمس حوالي ثماني دقائق، هذا يعني أننا حين ننظر إلى الشمس، نراها كما كانت قبل ثماني دقائق، وليس كما هي الآن، فلو انطفأت الشمس في هذه اللحظة، سنبقى نرى الشمس مضاءةً لثماني دقائق إضافية قبل أن تعتم الأرض.
وعليه، فحين ننظر إلى مجرة على بعد مائة ألف سنة ضوئية، ما نراه هو صورة تلك المجرة كما كانت عليه قبل مائة ألف سنة، لأن الضوء الذي يصل أعيننا منها الآن (وبالتالي الصورة التي نراها) صدر عن تلك المجرة قبل مائة ألف سنة، ولم يصل لنا إلا اليوم.
هكذا يرصد العلماء ”ماضي“ الكون، من خلال إلقاء النظر على أبعد مناطق الكون وبالتالي رؤية صورته هناك كما كان في الماضي السحيق، واستنتاج ماضي بقعتنا من الكون من خلال هذه الصور.
إن أي ”رجوع“ في الزمن أثناء مراقبة الكون هو رجوع مجازي، وليس حرفي، وبالتالي أخطأ كحيل في وصفه للحقيقة، فحتى لو تم رصد هذه الموجات في المستقبل القريب، فهي لن توفر لنا رؤية عن ماضي الكون ولن ”تُرجع“ لنا الماضي بأية طريقة، وسيقتصر دورها على كونها إثباتًا جديدًا لنظرية الانفجار العظيم وحسب.
سيقفز الآن مدّعي الإعجاز العلمي ليدّعوا أن ما قلته لتوي عن الضوء وصورة الكون ”مذكور في القرآن الكريم“ في نص الآية {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، سأترك المجال هنا للقارئ في تطبيق الشروط الثلاث على هذا الادعاء وتفنيده، بإمكانك إن أردت كتابة تحليلك الخاص في خانة التعليقات لإفادة الآخرين.
2. هل هناك تأويل آخر للدليل أكثر بساطةً من التفسير المعطى؟
إن العامل المشترك الوحيد بين ”إرجاع الأحداث“ و”الرَّجع“ في الآية السابقة هو الجذر الثلاثي للكلمتين، وهذا قمة في استغباء عقول الناس والاستخفاف بهم؛ إن المعنى المراد بكلمة ”الرّجع“ في الآية هو أبسط بكثير من المعنى الملتوي والملتف على نفسه الذي أعطاه كحيل، وهو المطر.
يقول ابن كثير: ”قال ابن عباس: الرجع: المطر. وعنه: هو السحاب فيه المطر. وعنه: (والسماء ذات الرجع) تمطر ثم تمطر“. ويوافقه بذلك كل من الطبري ”ترْجع بالغيوم وأرزاق العباد كلّ عام“ والقرطبي ”ترجع كل سنة بمطر بعد مطر“ وباقي مفسري القرآن.
والجدير بالذكر لأجل الأمانة الفكرية أن هناك معنىً آخر لكلمة الرجع كما وردت في كتب التفسير، وقد شرحه القرطبي بشكل وافٍ: ”وقال عبد الرحمن بن زيد: الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية وتغيب في أخرى.“
وهكذا نرى أن المعنى الحقيقي (وهو المعنى الأبسط والأبلغ) لهذه الآية هو وبكل بساطة، أن السماء تجلب المطر والرزق، لا خصائص كونية ولا استرجاع ماضي ولا شيء، وعليه يفشل الدليل في تحقيق الشرط الثاني.
3. هل يحتوي هذا الدليل معلومات يستحيل معرفتها إلا من خلال وحي رباني؟
جميع الكائنات الحية على الأرض، من أبسط الحشرات لأعقد الرئيسيات، تعلم أن السماء تجلب المطر عبر السحاب، ومنه فالجواب هو ”لا“.
وهكذا، نرى كيف يسقط ادعاء كحيل وغيره بالإعجاز القرآني في موضوع الانفجار العظيم بمجرد تفحص الادعاء تحت مجهر العلم وتطبيق بضعة قواعد منطقية بسيطة عليه، فهل يتنبأ القرآن بنظرية الانفجار العظيم؟ الجواب بكل بساطة وبكل تأكيد هو ”لا“.
إرسال تعليق