Translate


تعكس بلدان شمال أفريقيا و الشرق الأوسط العربية منها و الإسلامية ، سباقاً محموماً في بناء المساجد ، ففي هذه البلدان تغلق سنوياً العديد من المدارس و المعامل و المقاولات و كذا المستشفيات بسبب إنعدام التجهيزات والأطر العاملة ،، لكن المساجد وحدها تعرف ازدهاراً و تزايد في أعدادها.

يتم هذا حتى في المناطق التي يموت فيها الأطفال من البرد القارس والنساء من ألم الوضع ،، مناطق أنهكها الجفاف ، و النسيان ، و الكورث الطبيعية ، و الهجرة و الحروب ، و وصلت فيها درجة الإحتقان مستوى ينذر بالإنفجار .

مستوى جعل سكان مناطق يلجؤون إلى حدود البلد المجاور مطالبين بالإنتماء إليهم ، و الذي من المؤكد أن أحوال الناس هناك أيضاً ليس بالشئ الأفضل .

كما جعل السكان الآخرين يجمعون وثائقهم القانونية في كيس و يسلمونها إلى حكوماتهم في إشارة إلى شق عصا الطاعة حسب التعبير السلطوي القديم . وجعل سكاناً آخرين يغادرون مناطقهم إلى غير رجعة بإتجاه المجهول .

لفقراء بلدان شمال أفريقيا و الشرق الأوسط أولوياتهم الملحّة والتي لا يمكن التعامي عليها بالمساجد ولا بالمدارس القرآنية ، منها:
العمل ، والتعليم ، والسكن اللائق ، والخدمات الصحية ، و المواصلات ، والطرق المعبدة ، و الماء الصالح للشرب و الكهرباء و التوعية والإرشاد للسكان بحقوقهم ، وواجباتهم وأساليب الوقاية من الأمراض و طرق تدبير مجالهم و تطوير أعمالهم وإنجاح مشاريعهم ومنها حماية تراثهم من الإندثار و الحفاظ على شخصيتهم الثقافية لتكون إحدى ركائز التنية المحلية.
لكن الجواب الأكثر رواجاً الذي يتلقاه السكان عن مطالبهم هو : المزيد من المساجد التي تبنى بميزانيات باهظة!!

مالذي سيفعله الفقراء بمساجد مزخرفة بأنواع الرخام الباهظ الثمن و المصابيح البلورية وهم الذين يسكنون في بيوت أيلة للسقوط في أكواخ القصدير و الصفيح والخيام حتى أن بعضهم يخجل من دخول المسجد لكثرة البذخ و مظاهر الرفاه التي تبدو عليه ؟

لعل هذا الوضع المفارق هو الذي يفسر لنا سبب الحراسة المشددة المضروبة على المساجد من طرف السلطات. فتجمع الفقراء بإنتظام من أجل الصلاة لا بد أن يؤدي إلى شئ آخر غير العبادة .. وهو تنظيم الإحتجاجات !
ولهذا ، تتفقت عبقرية خطباء السلطة بالمساجد بأختراع عجيب ، وهو البكاء و النواح .. فثمة انتشار لظاهرة البكاء في المساجد منذ أن تم تزكيتها من مكة ، في التسجيلات الصوتية على أشرطة الدعاء و الأقراص المدمجة التي تباع في الأسواق و التي تتضمن أدعية بأصوات " الدعاة و الشيوخ " و هم يشهقون و يبكون و تتقطع أصواتهم من تأثير العبرات و الزفرات ، و قام العديد من المسلمين بتسجيل ذلك على هواتفهم ، فكلما تم الإتصال بأحدهم .. سمعت هاتفهم ينطلق بدعاء ذلك الإمام البكاء النواح وأزدحم الناس على المساجد التي يخطب في منابرها الائمة البكائون حيث يتنادون إليها و يمتدحون خطابئها بأعتبارهم أهل صدق وورع وإيمان حقيقي .. كيف لا وهم ينجحون في إبكاء الناس واستدرار دموعهم و صار الأمر كأنه إعتيادياً لا يثير الإهتمام ، بينما نحن في صدد ظاهرة بحاجة إلى تعليق و تحليل لإنها لم تكن بمحض الصدفة بل ترتبط في الواقع بتقاليد عريقة ذات جذور في التاريخ.

فقد عرف المسلمون ظاهرة البكاء في المساجد في عصور الإنحطاط ، و أزدهرت بسبب إشتداد الضائقة و إنتشار الظلم و إستبداد الحكام و كثرة الأوبئة والمجاعات و الكوارث الطبيعية ، لهذا كان المسلمون يجدون في المساجد بعض العزاء المطلوب حين يلتفون حول "خطيب" مفوه يرثي حال الأمة ، و يذكر هوان الناس ، و ثم يرفع أكفه بالدعاء فتنهمر دموعه و يبكي معه كل من حضر الخطبة ، ويخرج الناس و ينتشرون في الأرض و قد خف بعض شعورهم بالقهر و الظلم والخوف .

عندما نقوم بتحليل خطب بعض الائمة اليوم عند العبارات التي ينطلق فيها الإمام في البكاء ، فسنجد إنها تتعلق جميعها بواقع الدول الإسلامية المتخلفة و الضعيفة والتي لم يعد لها من وزن وسط الأمم القوية التي تقود الحضارة .

حيث يتم التركيز على العدوان والبغي و الإستكبار العالمي و إسرائيل الخ .. كما يرثي لحال المسلمين الذي تطبعه الفرقة و التشرذم . فالأمر إذاً يتعلق بوضعية التبيعة الإقتصادية و التكنولوجية و السياسية و العلمية للدول المتقدمة ، وهي وضعية سَببها التأخر التاريخي الذي عاشته الدول الإسلامية منذ العصور الوسطى.

حيث تحول تحولت القوى العسكرية لجيوش الخلافة الإسلامية إلى إنكماش عقب الهزائم المتوالية ، كما تغيرت الطرق و المسالك التجارية و الرهانات المختلفة ، و أنطلقت الثورات العلمية في الغرب ، و كذا حركة الإكتشافات الكبرى عبر العالم ، و ظهرت الجامعات العصرية ، و أنطلق مسلسل الاصلاح الديني، ثم الثورات الإجتماعية والسياسية ، لينتهي كل ذلك المخاض إلى تشكيل عالم جديد لم تعد فيه اسباب النهضة والقوى هي ماكانت عليه من قبل ، بل صارت هي: الديمقراطية والعلم. مما أدى لتمركز القوة العسكرية و العلمية و الاقتصادية بين يدي العالم الغربي ، وجعل العالم الإسلامي في ذيل القافلة.

نفهم من هذا ما وراء بكاء الدعاة والخطباء والأئمة. فالبكاء يصرف النظر عن موطن الداء الذي هو عقر دار المسلمين ، كما ينحي باللائمة على الغير - المسؤول الأول والأخير - و يجعل الأمر من جانب آخر كما لو أنه قضاء و قدر من الله الذي غضب على الأمة و شاء لها هذا المصير المشؤوم. من جانب آخر وجد القادة والحكام في بكاء الدعاة والأئمة ضالتهم ، حيث أنتقلت الظاهرة إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي ، وأصبحت عزاء للناس ، وتلهية وتفريغ للمكبوت السياسي والإجتماعي. فبعدما تقوم السلطة بخرق حقوق الناس الأساسية و الدوس على كرامتهم ، تترك لهم حق البكاء الجماعي في المساجد ، للترويح عن النفس و تخفيف الأعباء والضغوط اليومية للسياسة الحكومية ..ومنها بلع الزيادات المتوالية التي ألهبت جيوب المواطنين.

أكتب تعليق

أحدث أقدم